
في لحظةٍ نادرةٍ من صفاء الحزن، حيث تتراجع السياسة خطوةً إلى الوراء ليتقدم الإنسان، اجتمع الموريتانيون ــ على اختلاف مواقعهم بين الموالاة والمعارضة ــ على بكاء أمٍّ واحدة، وعلى تعزية قلبٍ واحد: محمد فال ولد يوسف، في رحيل والدته فاطمة الشايعة بنت لمرابط فال.
لم يكن الخبر خبراً عادياً، بل كان موجةَ أسىً عمّت الضفتين، وسكوناً مهيباً لفَّ الساحة الوطنية، تحوّل منزل ولد يوسف في روصو إلى مأتمٍ كبير، لا تحدّه الجغرافيا ولا تقف عند بابه الانتماءات السياسية.
هناك في "لكوارب"، حيث اختار الابن البارّ أن ينفذ وصية أمه، فأقام عزاءها في بيته، بعيداً عن صخب العاصمة، قريباً من روحها التي أحبت البساطة وكرهت الأضواء.
وبرغم ذلك، لم يمنع البعدُ قادةَ الدولة ورموزَ الرأي من شدّ الرحال، فعزّى رئيس الجمهورية عبر موفده، كما توالت الاتصالات من الوزير الأول المختار ولد اجاي في ساعةٍ متأخرة من الليل، ومن رئيس الحزب الحاكم، ومن وزراء الداخلية والخارجية، والوزير المنتدب، وعددٍ كبير من أعضاء الحكومة والشخصيات الوطنية، إضافة إلى المدونين وأصحاب الرأي العام.
كان الحزن أوسع من البروتوكول، وأصدق من البيانات.
حزب الإنصاف لم يكتفِ بالمواساة اللفظية، فأصدر برقية تعزية رسمية، وجاء فيها:
> "علمنا، مع التسليم بقضاء الله وقدره، برحيل المغفور لها بإذن الله تعالى الشايعة بنت لمرابط فال، والدة السيد محمد فال ولد يوسف، عضو المجلس الوطني.
وهي مناسبة نعبر فيها، باسم حزب الإنصاف، عن تعازينا الخالصة لجميع أفراد أسرة الفقيدة، ولجميع سكان مقاطعة لكوارب، ولكافة الموريتانيين، راجين من الله أن يتغمد الفقيدة برحمته الواسعة، وأن يلهم ذويها ومحبيها الصبر والسلوان.
إنا لله وإنا إليه راجعون."
البرقية وقّعها رئيس الحزب سيد أحمد ولد محمد، قبل أن يبعث الحزب وفداً من قياداته إلى روصو لتقديم العزاء حضوراً لا غياباً.
كما حضر والي ولاية الترارزة معزّياً بوصفه موفداً من رئيس الجمهورية، في مراسيم خلت ــ عمداً ــ من الصور الرسمية، وفاءً لمبادئ المرحومة وأخلاقها، إذ لم تكن تحب الكاميرات ولا مظاهر الاستعراض.
ومن الضفة الأخرى، حيث تقف المعارضة، شدّ السياسي والمرشح الرئاسي السابق بيرام الداه اعبيد الرحال إلى دار ولد يوسف، مؤكداً أن الموت حين يطرق الباب، تسقط كل الجدران، وتبقى الإنسانية وحدها، كما اتصل قادة أحزابٍ سياسية متعددة، كلٌّ باسمه وصفته، لا ليسجل موقفاً، بل ليؤدي واجباً.
هكذا، اختلطت الألوان السياسية في مشهدٍ واحد: كشكول وطني نادر، جمع من فرّقتهم السياسة، ووحّدهم العزاء. موالاةٌ ومعارضة، حكومةٌ ونشطاء، وزراء وخصوم… كلهم وقفوا على باب واحد، وبكوا أمّاً واحدة.
حقٌّ لمحمد فال ولد يوسف، وهو يودّع أمَّه، أن يفخر بوطنه. فبين دمعةٍ صامتة، وتعزيةٍ صادقة، أثبتت موريتانيا ــ في هذا الحزن ــ أنها حين تتألم، تتجاوز خلافاتها، وتستعيد أجمل ما فيها: الوفاء، والبر، ووحدة القلب.




