
في عصرٍ تتسارع فيه وتيرة الأعمال، ويزداد اعتماد المؤسسات على الاجتماعات كوسيلة للتنسيق واتخاذ القرارات، تواجه الشركات الكبرى ظاهرة متصاعدة، تتمثّل في تراجع التركيز والانتباه، داخل غرف الاجتماعات نتيجة للأجهزة الإلكترونية. فقد أصبح استخدام الهواتف الذكية والحواسيب المحمولة خلال اجتماعات العمل، عاملاً مؤثّراً في تحويل المشاركين من عناصر فاعلة، إلى مستمعين سلبيين أو منشغلين بالرسائل والمهام الأخرى.
وبحسب تقرير أعدته صحيفة "وول ستريت جورنال"، فإن هذه الظاهرة باتت تُثير استياء الرؤساء التنفيذيين للشركات، خصوصاً أن هؤلاء عمدوا في السنوات الماضية، إلى حظر إمكانية تلقي اتصالات هاتفية خلال اجتماعات العمل منعاً للتشتت، إلا أن المشكلة عادت لتطل بشكل جديد، من خلال تطبيقات الدردشة ورسائل البريد الالكتروني.
الرؤساء يواجهون التشتت
ويقول جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لبنك جي بي مورغان تشيس، في رسالته السنوية للمستثمرين التي أرسلها في شهر أبريل 2025، إن التشتت الذي تتسبب به الأجهزة الالكترونية خلال اجتماعات العمل، يجب أن يتوقف، مشيراً إلى أن ما يحصل يُعد قلة احترام ومضيعة للوقت.
كما جدد ديمون شكواه من هذه المشكلة الشهر الماضي، حيث قال خلال مشاركته في قمة فورتشن لأقوى النساء، "إذا كان لديك جهاز آيباد وبدا أنك تقرأ بريدك الإلكتروني أو تتلقى إشعارات خلال وجودي، فأنا أنصحك بإغلاق هذا الشيء اللعين."
بدوره يرى براد جاكوبس، الرئيس التنفيذي لشركة توزيع منتجات البناء QXO، أن الكثير من اجتماعات العمل مملة للغاية، ومليئة بالمستمعين السلبيين بسبب التشتت، في حين أنّ الاجتماع الخالي من أي تشتيت يمكن أن يكون آسراً.
أما آشلي هيرد، التي عملت سابقاً كرئيسة لشؤون الموظفين وتُدير حالياً جلسات تدريب إدارية، فتقول إنها غالباً ما تتوقف عن الكلام عندما ترى المشاركين في الجلسات ينظرون إلى هواتفهم، مشيرة إلى أنه بدلاً من توبيخ الحضور، فإنها تعتبر التوقف عن الكلام إشارة لهم.
في المقابل، تبنّت شركة UKG المتخصصة في تطوير البرمجيات إجراءً خاصاً يهدف إلى الحد من التشتت خلال اجتماعات العمل، حيث باتت تطلب من موظفيها وضع هواتفهم مقلوبة على الطاولة ، في محاولة لتشجيعهم على مراقبة بعضهم البعض بطريقة ودّية. وفي حال لاحظ أحد المشاركين زميلاً يستخدم هاتفه، يُوجَّه إليه تذكير لطيف بعبارات مثل: "مرحباً، يبدو أنك في مكان آخر، هل كل شيء على ما يرام؟" .
من جهته، يرفض براد فيكسلر، نائب رئيس التسويق في نظام الرعاية الصحية UCHealth، استخدام الأجهزة الإلكترونية خلال الاجتماعات، مؤكداً أنه في حال احتاج أحد الموظفين إلى إجراء مكالمة أو الدخول إلى الإنترنت، فيمكنه القيام بذلك خارج قاعة الاجتماع.
ويفكر فيكسلر في تطبيق نظام "صندوق الهواتف"، الذي يفرض غرامة رمزية على من يستخدم جهازه أثناء الاجتماع، على أن تُخصّص حصيلة هذه الغرامات للأعمال الخيرية.
المشكل تطال Airbnb أيضاً
وبحسب "وول ستريت جورنال"، فقد طلب برايان تشيسكي، الرئيس التنفيذي لشركة Airbnb، قبل بضعة أسابيع من كبار مساعديه تحديد المشاكل التي يرون أنها تعيق الشركة، حيث أشار أحد المديرين التنفيذيين إلى مشكلة تشتت عدد كبير من موظفي الشركة خلال الاجتماعات، نتيجة انشغالهم بفحص هواتفهم أو أجهزة الكمبيوتر المحمولة.
وحينها أدرك رئيس Airbnb، أن المشكلة تخصه وهو أيضاً غارق فيها، إذ لاحظ أن الأفراد المشاركين في الاجتماع، وعند رؤيتهم له يُرسل رسالة نصية، يفعلون الشيء نفسه.
ونتيجة لذلك، وافق فريق إدارة Airbnb على محاولة إعادة ضبط ثقافة الاجتماعات من خلال عيش تجارب يُحتذى بها، وتشجيع سياسة عدم النظر إلى الهاتف إلا في حالات الطوارئ
وجهة نظر مغايرة
في المقابل يرى بعض الموظفين أن رؤساءهم قد لا يدركون أن المحادثات الموازية أصبحت الآن جزءاً أساسياً من ثقافة الاجتماعات، حيث قد يتبادل الموظفون الرسائل النصية أو البريد الإلكتروني فيما بينهم لإرسال الملاحظات أو الإجابة على سؤال يطرحه رئيسهم، ناهيك عن القضايا الشخصية التي قد تتطلب اهتماماً، وهو ما يؤيده آندي ديكر الرئيس التنفيذي لشركة Goodwin Recruiting، الذي أشار إلى أنه قد يتلقى أحياناً رسائل نصية من زملائه لإبلاغه أنه يطيل الكلام.
عبء معرفي مستمر
ويقول الإعلامي والصحفي شادي معلوف، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن الأبحاث تؤكد أن الهواتف الذكية لا تؤثر فقط على أداء الأفراد عند استخدامها، بل أن حتى مجرد وجودها ضمن نطاق الرؤية، يمكن أن يقلّص التركيز والانتباه، وهذا ما يُعرف بتأثير "الانتباه المنقسم الضمني"، حيث يتعرض الدماغ بشكل غير واع، للإشارات المستمرة من الجهاز مثل الإشعارات أو توقع وصول رسالة جديدة، لافتاً إلى أن دراسة تم نشرها في عام 2023 أظهرت أن وجود الهاتف على الطاولة خلال أداء مهام معرفية، يقلّص قدرة الدماغ على معالجة المعلومات بشكل فعال، حتى لو لم يُستخدم الهاتف فعلياً، وهذه الظاهرة تبيّن أن الأجهزة الالكترونية يمكن أن تكون عبئاً معرفياً مستمراً يقلّل من التركيز.
ويرى معلوف أنه في بيئات الاجتماعات غالباً ما يشعر الموظفون بضغط نفسي بمجرد وجود هواتفهم أو هواتف زملائهم على الطاولة، وهذا الضغط يُضعف القدرة على الانخراط الكامل في النقاشات ويحوّل المشاركين إلى مستمعين سلبيين أو منشغلين بالتفكير فيما قد يصلهم عبر الأجهزة، لافتاً إلى أنه من الناحية العلمية فإن هذا التراجع في التركيز ينعكس تراجعاً في جودة القرارات التي يتم اتخاذها خلال الاجتماعات، ويزيد من نسبة الأخطاء في المشاريع المشتركة، وأيضاً يطيل زمن الاجتماعات دون تحقيق أهدافها، ومن هنا بدأت بعض الشركات العالمية في اعتماد سياسات محددة لإدارة الهواتف داخل الاجتماعات بهدف استعادة التركيز وتحسين الأداء الجماعي.
اجتماعات بلا هواتف
ويضيف معلوف إنّ سياسات إدارة الهواتف خلال اجتماعات العمل لا تُعد مجرد إجراءات شكلية، بل تشكّل خطوة استراتيجية للحفاظ على جودة العمل، داعياً إلى اعتماد سياسة إبقاء الهاتف خارج قاعة الاجتماع وحتى إطفائه كلياً، فأي شخص في العالم قادر على التخلي عن الهاتف لفترة قصيرة، سواء نصف ساعة أو حتى ساعة، وذلك من أجل التركيز الكامل في النقاشات واتخاذ القرارات، في حين أنه يجب على القيّمين على الاجتماع عدم إطالة مدته أو فتح المجال للأحاديث الطويلة التي تصيب المشاركين بالملل.
إعادة تصميم أسلوب الاجتماعات
بدوره يقول مدير التوظيف في إحدى الشركات سليم الحاج، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن اجتماعات العمل التقليدية الطويلة، غالباً ما تفقد المشاركين الاهتمام بسرعة، ولذلك يجب تصميم الاجتماعات بأسلوب أكثر تفاعلية مع تحديد أجندة واضحة لكل جلسة، وتقسيمها إلى فترات قصيرة مع استراحات محددة، مما يسمح للموظفين بالحفاظ على التركيز ومشاركة الأفكار بشكل فعّال، والاطلاع على هاتفهم خلال فترة الاستراحة، مشدداً على أهمية تدريب المدراء على قيادة الاجتماعات بطريقة تحفّز المشاركة وتشجع على التفاعل الجماعي بدل اقتصار الأمر على أحاديثهم الطويلة والمملة.
ويشير الحاج إلى أن ترك الهاتف والأجهزة الالكترونية الأخرى خارج قاعة الاجتماع، لا يقلل من الحرية الشخصية للموظفين، بل هو إجراء لإدارة التشتت الرقمي وتنظيم الوقت داخل الاجتماع، ويعزز ثقافة عمل إيجابية ترتكز على التركيز والإنجاز.

