
في مثل هذا اليوم الثامن يونيو قبل 22 سنة، دق ضباط أحرار أشراف أول مسمار في نعش دكتاتورية جثمت على البلاد وأهلها عقودا.. وهو المسمار الذي أفقد النظام – حينها - تركيزه، وهز ثقته في كل شيء، وأدخله في دوامة انتهت بسقوطه..
صحيح، أن النظام الحاكم منذ 1978، استطاع تحويل الضربة إلى فرصة "للتغيير" الداخلي، والتخلص من الرأس، لكن المحصلة النهائية تقول إن الشعب الموريتاني حقق بهذه العملية البطولية، ومن خلال العديد من المكاسب.
بعد سنتين ونيف، سيأتي انقلاب الثالث أغسطس 2005، أو "التغيير الذي وقع حتى لا يقع تغيير"، وستعرف البلاد بعد ذلك محطات عديدة، الثابت فيها هو تحكم المؤسسات العسكرية في كل مسارات الحكم، ونجاحها في اختراق القوى السياسية، وتوجيهها كما تريد، واستغلالها هشاشتها وضعف ثقتها البينية أبشع استغلال.
حقق الشعب الموريتاني مكاسب كبيرة على مستوى المنظومة الانتخابية، والممارسة الديمقراطية، وتراكم التجربة، إضافة للجانب التشريعي والمؤسسي من الشفافية، دون أن تطبق النصوص أو تأخذ المؤسسات دورها وصلاحياتها، وما زال أمامه الكثير، وعلى رأسه "استعادة" السيادة، والثقة بنفسه، وإثبات حقيقة أنه هو الحاكم، وأنه هو مصدر السلطة؛ يمكنه أن يمنحها، ويستطيع أن يستعيدها حين يفشل من منحت له في مهمته، أو يثبت أنه ليس على مستواها.
من الخلاصات المهمة التي تستحق التوقف، أن الشعب الموريتاني – ككل – كان يثبت في كل محطة من محطات الاختبار أنه واع بمسؤولياته، وساع للتغيير، وتشهد لذلك كل الاستحقاقات الرئاسية التي عرفتها البلاد من 2005 إلى اليوم، ففي كل فرصة يتاح فيها مستوى ما من الشفافية، ففي كل فرصة يتاح فيها مستوى ما من الشفافية (كالرئاسيات عموما، والتي يتراجع فيه الضغط القراباتي والقبلي والجهوي) كان نصف الشعب الموريتاني يقف ضد "مرشح المنظومة الحاكمة"، وكان يضطرها في كل مرة للبحث عن سند من خارجها، أي من المعارضة، وكانت تجده – بكل أسف – في كل مرة. المسؤولية هنا على النخب السياسية، وعلى قادة المشاريع التغييرية التي وثق فيها الشعب، وقدمها لقيادته.
تراكم الصدمات – حتى لا أقول الخيانات – ترك ندوبا وآثارا عميقة في الوعي الشعبي العام، وعلى صورة النضال والمناضلين والمهتمين بالشأن العام. فصورة المتصدرين والمهتمين بالشأن العام اليوم تعاني من ضبابية كبيرة، بفعل ما تواجهه من "حملات تشويه" متوقعة من أدوات المنظومة الحاكمة، ونتيجة ما عايشته الأجيال الموريتانية المتعاقبة، وخصوصا خلال العقود الثلاثة الأخيرة من "تحولات" مفاجئة ومواقف مربكة من "زعمائها" السياسيين، وقادتها المناضلين.
سيحتاج الجادون من القادة السياسيين والمناضلين في هذا العصر لجهود استثنائية من أجل ترميم الصورة الممزقة، واستعادة الثقة المهزوزة، وإن نجحوا في ذلك بقدر ما، فسيكون التغيير قاب قوسين أو أدنى منهم، لكنها – في الحقيقة – مهمة ليست سهلة، وقد تكون 2029 محطة مناسبة لها، في ظل "حالة الشك" المخيمة عليها حتى داخل المنظومة الحاكمة. فهل سيجد الشعب الموريتاني فرصته هذه المرة؟ أم أن المنظومة الحاكمة لم تستنفد ألاعبيها وأدواتها من الثالث أغسطس 2005، إلى MY CENI 2024، وما زالت قادرة على التجدد والتغيير داخلها، و"القيام بتغيير" يضمن أن لا يقع أي تغيير؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رسالة المحطتين، أي محطة "دبابة دبابة" يونيو 2003، ومحطة "دموع انيامى" أغسطس 2005، هي أن سكرات الدكتاتوريات قد تطول أحيانا، لكن نهايتها مسألة وقت، وقد لا تحتاج سوى شجاعة ونبل، تدفع لكلمة حق، أو وقفة شرف، أو تحرك حسب المتاح.. وأن "حيل" المنظومات الحاكمة لا حصر لها، وتحتاج وعيا وطول نفس، وقدرة استثنائية على الصمود، وحماية للصورة الرمزية للنضال والمناضلين باعتبارها "رأس مال وطني" قد لا يبعد أن يكون التفريط فيه "خيانة كبرى"، وضربة لوعي الجماهير وثقتها، وتأجيل لتراكم متطلبات التغيير عقودا أخرى.
أحمد محمد المصطفى